اتخاذ القرار السياسي هو أصعب وأخطر مرحلة من مراحل العملية السياسية في اى دولة، فالدولة كيان أصعب من أن يختزل بـ (أرض – شعب- سلطة) فهناك تداخلا كبيرا بين مفهوم الدولة وعدة مفاهيم اخري متعلقة بقدرتها على ممارسة دورها في الداخل ومحيطها الإقليمي وأيضا علي المستوي الدولي.
ودائماً يمثل القرار ذروة العمل السياسي في الدولة، ويتم اتخاذه بناءا على عنصرين يشملان كل مكونات والدولة ومصادر قوتها، وهما "الجغرافية السياسية" و"الجيوبوليتيك"، وعلى الرغم من ان البعض يعتبرهما يمثلان علما واحدا، الا ان الحقيقية مختلفه تماما، اذا تختص الاولي -الجغرافية السياسية- بمحددات السياسة الداخلية للدولة ، بينما تختص الثانية بمقومات السياسة الخارجية للدولة.
هذه المفاهيم هي التي اعتمد عليها عالما السياسة جون ميرشايمر وسيباستيان روساتو، الأمريكيان في كتابهما "كيف تفكر الدول" في رؤية تعد الأكثر الماما بما هي الدولة في العصر الحديث.. والكتاب يعتبر مرجعا مهما لكل من يحاول استشراف وفهم خيارات الرؤساء والقادة اثناء اتخاذهم القرارات المصيرية.. وأول ما يلفت الانتباه في هذا المؤلف هو تعريف كلمة الدولة، فهمي كما يقولان ان "الدولة في نهاية الامر شخص اعتباري مهما تعددت مقومات بقائها، فأنها تخطئ وتصيب، وتفشل وتنجح، وأيضا ربما تنتحر في نهاية المطاف.
ويضرب المؤلفان مثالا علي ذلك بقرار روسيا بشن غزو على أوكرانيا لم يكن منطقياً على الإطلاق، إذ إن أوكرانيا هي أكبر دولة في أوروبا، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يكن لديه ما يكفي من الجنود الأكفاء والأسلحة ذات الجودة. ولم تبد أي دولة أخرى (باستثناء بيلاروس) تعاطفاً مع فكرة أن موسكو يجب أن تسيطر على كييف، وكانت الولايات المتحدة قد كشفت عن خطط بوتين المتعلقة بالغزو ثم نشرتها للعالم بأسره. فأطلقت معظم الاقتصادات الكبرى على مستوى العالم تهديدات بفرض عقوبات على روسيا إذا مضت قدماً في هجومها، فيما أوضحت دول حلف شمال الأطلسي أنها ستمد كييف بالأسلحة.
ولكن بالنسبة إلى ميرشايمر وروساتو، فإن قرار بوتين يبدو مفهوماً ومنطقياً. وأن اعتقاد بوتين بأن روسيا وأوكرانيا جزء من دولة واحدة هو اعتقاد معقول، لأن أوكرانيا، تاريخياً، كانت بمثابة الحاجز الاستراتيجي لموسكو في وجه بقية أوروبا. بل ويجادلان بأن بوتين ومستشاريه "تعاملوا مع الموقف استناداً إلى النظرية الصريحة والواضحة في توازن القوى"، معتبرين أن أوكرانيا حصن ضد حلف شمال الأطلسي، وأن عضوية كييف المحتملة في الحلف "خط أحمر".
ويعتبرالمؤلفان أن إبقاء أوكرانيا ضمن مجال النفوذ الروسي كان "مسألة حياة أو موت" للكرملين. وبحسب ما أكداه، فإذا خسرت روسيا الحرب في أوكرانيا أو خسر بوتين السلطة بسبب الصراع، لن يكون ذلك لأن قرار الغزو كان غير عقلاني، بل سيكون نتيجة عدم كفاءة الجيش الروسي، والجهود التي يبذلها حلف شمال الأطلسي من أجل مساعدة أوكرانيا على تحقيق التوازن في مواجهة روسيا.
ويشير الكتاب، الي ان علماء السياسة بدأو يدرسون طريقة تفكير القادة وتحيزاتهم، وكيف تسهم هذه الخصائص في تشكيل عملية صنع القرار. وقد وجدوا أن علم النفس له تأثير هائل في سلوك القادة على الساحة الدولية. في الواقع، يعتمد القادة في كثير من الأحيان على الاستدلال بالأساليب التجريبية لاتخاذ الخيارات، بخاصة أثناء الأزمات. وتؤثر معتقدات القادة وشخصياتهم وانطباعاتهم عن نظرائهم في طريقة رؤيتهم للعالم، وتحدد مشاعرهم الأسلوب الذي يعتمدونه في تعاملهم مع المشكلات والمواقف المختلفة. على سبيل المثال، كثيراً ما يذكر بأن هوس بوتين بالسيطرة على أوكرانيا هو السبب وراء غزوه للبلاد. ويرى المؤلفان أن معظم القرارات الدولية هي في الحقيقة عقلانية. وأن القادة يتخذون قرارات بناءً على الفوائد المتوقعة المرتبطة بالنتائج المحتملة. وأن القرارات العقلانية هي تلك المستندة إلى نظريات مدعومة بـ"افتراضات واقعية" و"منطق سببي مقنع" و"دعم بالأدلة".ففي نهاية المطاف، يعتقد جميع القادة أن نظرياتهم وأفكارهم وخياراتهم متسقة ومنطقية ومدعومة بما فيه الكفاية، ونادراً ما يكون هناك اختبار موضوعي يمكن أن يثبت خلاف ذلك أو لا يعتمد على التحليل بأثر رجعي.
"كيف تفكر الدول" هو كتاب شامل، يدرس فيه ميرشايمر وروساتو الخيارات الجماعية التي اتخذها صناع السياسات منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الوقت الحاضر. إنهما يعيدان النظر في خيارات رئيسة من الماضي غالباً ما اعتبرت غير منطقية ويجادلان بأنها كانت، في الواقع، عقلانية تماماً. حتى إنهما يستشهدان بغزو ألمانيا الكارثي للاتحاد السوفياتي عام 1941، وهجوم اليابان على بيرل هاربور في العام نفسه، باعتبارهما قرارين عقلانيين.
وتعد الحرب العالمية الثانية كنزا ثمينا لقرارات قادة كان لها انعكاسات وتأثيرات ممتده عبر التاريخ، وهناك مثل اخر، عندما قرر الجنرال الفرنسي الأشهر والأكثر شعبية بيتان تسليم باريس الي المحتل الألماني بدون أي مقاومة تذكر، في ذلك الوقت طالب الشعب الفرنسي بمحاكمته بتهمة الخيانة العظمي، علي الرغم انه كان احد كبار قادة فرنسا في الحرب العالمية الاولي واحرز انتصارات عديدة علي الجيش الألماني… وبعد اكثر من 30 عاما من نهاية الحرب العالمية الثانية، اكتشف الفرنسيون ان روما وباريس فقط هما من نجيتا من عواصم أوروبا التي ابادتها الحرب، الولي اكرما لبابا الفاتيكان، والثانية نتيجة قرار بيتان،، وعلم الشعب ان قرار التسليم الذي اتخذه هذا الجنرال كان هو السبب في انقاذ الكنوز الثقافية والاثرية التي تشتهر بها باريس، وبعدها أعاد الشعب الفرنسي كل التقدير لقائدهم الفذ.
كذلك فإن محاولة الاسترضاء المخزية التي قام بها رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين مع أدولف هتلر تشكل مثالاً آخر على ذلك. ويقول ميرشايمر وروساتو إن قرار تشامبرلين بالسماح للزعيم النازي بضم مساحات كبيرة من تشيكوسلوفاكيا في عام 1938، بدلاً من القتال ضد آلة الحرب الألمانية، كان عقلانياً ومدفوعاً بمنطق توازن القوى.
الأمثلة عديدة التي يذكرها الكتاب حول أجواء وتداعيات اتخاذ القرار، ولكن في النهاية يبقي ما يسمي بتعريف او مفهوم "اتخاذ القرار السياسي" الذي يمثل كما قلنا ذروة الازمة، وهو عادة ما يتم بناء علي فيض من المعلومات المتناقضة والمتضاربة التي تجمعها أجهزة الدولة المعنية لتصب بالكامل امام صانع القرار الذي يقع عليه عبء اتخاذ القرار، لذا فان مفهوم القرار السياسي في هذه اللحظة عبارة عن " مفاضلة بين غير المحتمل وغير الممكن" ويضطر متخذ القرار الي قبول "غير المحتمل" لأنه لا يستطيع مواجهة تداعيات "غير الممكن"… وهذه الاختيارات تلقى الضوء على صعوبة وربما استحالة بعض خيارات اتخاذ القرارات المصيرية ، وكيف تفكر الإدارات في لحظات مواجهة الازمات.